فصل: تفسير الآية رقم (199):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني المشهور بـ «تفسير الألوسي»



.تفسير الآية رقم (199):

{ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)}
{ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} أي من عرفة لا من المزدلفة والخطاب عام، والمقصود إبطال ما كان عليه الحمس من الوقوف بجمع، فقد أخرج البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكانت سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله سبحانه: {ثُمَّ أَفِيضُواْ} الآية ومعناها: ثم أفيضوا أيها الحجاج من مكان أفاض جنس الناس منه قديمًا وحديثًا، وهو عرفة لا من مزدلفة، وجعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى: {فَإِذَا أَفَضْتُم} ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة؛ وأتى بِثُم إيذانًا بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب، والأخرى خطأ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأمورًا به، والآخر منهيًا عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة {ثم} تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي، وجوز أن يكون العطف على فاذكروا ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضًا كما في السابق بلا تفاوت، وبعضهم جعله معطوفًا على محذوف أي: أفيضوا إلى منى ثم أفيضوا إلخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديمًا وتأخيرًا والتقدير: ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلًا من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى كما قال الجبائي بقيت كلمة ثم على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من عرفات لأن الحاج إذا إفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى، والخطاب على هذا عام بلا شبهة، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر أي من حيث أفاض الناس كلهم قديمًا وحديثًا، وقيل: المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناسًا لأنه كان إمامًا للناس، وقيل: المراد هو وبنوه، وقرئ {الناس} بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه: {فَنَسِىَ} [طه: 115] وكلمة ثم على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناءًا على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعًا قديمًا كذا قيل فليتدبر {واستغفروا الله} من جاهليتكم في تغيير المناسك ونحو {أَنَّ الله غَفُورٌ} للمستغفرين {رَّحِيمٌ} بهم منعم عليهم.

.تفسير الآية رقم (200):

{فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}
{فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم} أي أديتم عباداتكم الحجية وفرغتم منها {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ} أي كما كنتم تذكرونهم عند فراغ حجكم بالمفاخر، روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كان أهل الجاهلية يجلسون بعد الحج فيذكرون أيام آبائهم وما يعدون من أنسابهم يومهم أجمع فأنزل الله تعالى ذلك {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} إما مجرور معطوف على الذكر بجعل الذكر ذاكرًا على المجاز والمعنى واذكروا الله ذكرًا كذكركم آباءكم أو كذكر أشد منه وأبلغ أو على ما أضيف إليه بناءًا على مذهب الكوفيين المجوزين للعطف على الضمير المجرور بدون إعادة الخافض في السعة عنى أو كذكر قوم أشد منكم ذكرًا وإما منصوب بالعطف على {ءابَاءكُمْ} و{ذِكْرًا} من فعل المبني للمفعول عنى أو كذكركم أشد مذكورية من آبائكم، أو ضمر دل عليه المعنى أي ليكن ذكركم الله تعالى أشد من ذكركم آباءكم أو كونوا أشد ذكرًا لله تعالى منكم لآبائكم كذا قيل، واختار في البحر أن يكون {أشد} نصب على الحال من ذكرًا المنصوب باذكروا إذ لو تأخر عنه لكان صفة له وحسن تأخر {ذِكْرًا} لأنه كالفاصلة ولزوال قلق التكرار إذ لو قدم لكان التركيب فاذكروا الله كذكركم آباءكم، أو اذكروا ذكرًا أشد، وفيه أن الظاهر على هذا الوجه أن يقال أو أشد بدون {ذكرًا} بأن يكون معطوف على {كذكركم} صفة للذكر المقدر وأن المطلوب الذكر الموصوف بالأشدية لا طلبه حال الأشدية.
{فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والاكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقًا حجاجًا أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من الأغراض والاعراض جهل عظيم را يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضًا معللة بما تقتضيه الحكمة، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى: {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ} [التوبة: 72] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحًا للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطًا لطالب الدنيا عن ساحة عز الحضور، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء {الناس} على عمومه والمطابق لما سيأتي من قوله سبحانه: {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ} [البقرة: 204] إلخ {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى} [البقرة: 207] نعم سبب النزول كما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما طائفة من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيطلبون الدنيا، والطائفة من المؤمنين يجيئونه فيطلبون الدنيا والآخرة وهذا لا يقتضي التخصيص.
{رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا} أي اجعل كل إيتائنا ومنحتنا فيه فالمفعول الثاني متروك ونزل الفعل بالقياس منزلة اللازم ذهابًا إلى عموم الفعل للإشارة إلى أن همته مقصورة على مطالب الدنيا {وَمَا لَهُ فِي الاخرة مِنْ خلاق}. إخبار منه تعالى ببيان حال هذا الصنف في الآخرة يعني أنه لا نصيب له فيها ولا حظ؛ والخلاق من خلق به إذا لاق، أو من الخلق كأنه الأمر الذي خلق له وقدر، وقيل: الجملة بيان لحال ذلك في الدنيا فهي تصريح بما علم ضمنًا من سابقه تقريرًا له وتأكيدًا أي ليس له في الدنيا طلب خلاق في الآخرة، وليس المراد أنه ليس له طلب في الآخرة للخلاق ليقال: إن هذا حكم كل أحد إذ لا طلب في الآخرة وإنما فيها الحظ والحرمان، ويجاب نع عدم الطلب إذ المؤمنون يطلبون زيادة الدرجات والكافرون الخلاص من شدة العذاب، و{مِنْ} صلة، وله خبر مقدم والجار والمجرور بعده متعلق بما تعلق به أو حال مما بعده.

.تفسير الآية رقم (201):

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآَخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201)}
{وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً} يعني العافية والكفاف قاله قتادة، أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه، أو العلم والعبادة قاله الحسن، أو المال الصالح قاله السدي، أو الأولاد الأبرار، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى، أو صحبة الصالحين قاله جعفر، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلًا وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى: {وَفِي الاخرة حَسَنَةً} فقد قيل هي الجنة، وقيل: السلامة من هول الموقف وسوء الحساب، وقيل: الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه، وقيل: لذة الرؤية وقيل، وقيل... والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان.
{وَقِنَا عَذَابَ النار} أي احفظنا منه بالعفو والمغفرة واجعلنا ممن يدخل الجنة من غير عذاب، وقال الحسن: احفظنا من الشهوات والذنوب المؤدية إلى عذاب النار، وقال علي كرم الله تعالى وجهه: عذاب النار الامرأة السوء أعاذنا الله تعالى منها وهو على نحو ما تقدم وقد كان صلى الله عليه وسلم أكثر دعوة يدعو بها هذه الدعوة كما رواه البخاري ومسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه. وأخرجا عنه أيضًا أنه قال: «إن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا رجلًا من المسلمين قد صار مثل الفرخ المنتوف فقال له صلى الله عليه وسلم: هل كنت تدعو الله تعالى بشيء؟ قال: نعم كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجله لي في الدنيا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: سبحان الله إذا لا تطيق ذلك ولا تستطيعه فهلا قلت ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ودعا له فشفاه الله تعالى».

.تفسير الآية رقم (202):

{أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
{أولئك} إشارة إلى الفريق الثاني والجملة في مقابلة {وَمَا لَهُ فِي الاخرة مِنْ خلاق} [البقرة: 200] والتعبير باسم الإشارة للدلالة على أن اتصافهم بما سبق علة للحكم المذكور ولذا ترك العطف هاهنا لكونه كالنتيجة لما قبله، قيل: وما فيه من معنى البعد للإشارة إلى علو درجتهم وبعد منزلتهم في الفضل، وجوز أن تكون الإشارة إلى كلا الفريقين المتقدمين فالتنوين في قوله تعالى: {لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} على الأول: للتفخيم وعلى الثاني: للتنويع أي لكل منهم نصيب من جنس ما كسبوا، أو من أجله، أو مما دعوا به نعطيهم منه ما قدرناه، ومن إما للتبعيض أو للابتداء، والمبدئية على تقدير الأجلية على وجه التعليل، وفي الآية على الاحتمال الثالث وضع الظاهر موضع المضمر بغير لفظ السابق لأن المفهوم من {رَبَّنَا ءاتِنَا} [البقرة: 201] الدعاء لا الكسب إلا أنه يسمى كسبًا لأنه من الأعمال وقرئ {مما اكتسبوا}.
{والله سَرِيعُ الحساب}. يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا، وروي قدار فواق ناقة، وروي قدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات، والجملة تذييل لقوله تعالى: {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ} [البقرة: 200] إلخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف، أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كمًا وكيفًا، ومجازاتهم عليها هذا.
ومن باب الإشارة في الآيات: {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ} بيوت قلوبكم من طرف حواسكم ومعلوماتكم البدنية المأخوذة من المشاعر فإنها ظهور القلوب التي تلي البدن {ولكن البر مَنِ اتقى} شواغل الحواس وهواجس الخيال ووساوس النفس الأمارة {وَأْتُواْ} هاتيك {البيوت مِنْ أبوابها} التي تلي الروح، ويدخل منها الحق {واتقوا الله} [البقرة: 189] عن رؤية تقواكم لعلكم تفوزون به {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} من قوى نفوسكم ودواعي بشريتكم فإن ذلك هو الجهاد الأكبر {وَلاَ تَعْتَدُواْ} بإهمالها والوقوف مع حظوظها أو لا تتجاوزوا في القتال إلى أن تضعفوا البدن عن القيام راسم الطاعة، ووظائف العبودية:
فرب مخمصة شر من التخم

{إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} [البقرة: 190] الواقفين مع نفوسهم أو المتجاوزين ظل الوحدة وهو العدالة {واقتلوهم} حيث وجدتموهم أي امنعوا هاتيك القوى عن شم لذائذ الشهوات والهوى حيث كانوا {وَأَخْرِجُوهُمْ} عن مكة الصدر كما أخرجوكم عنها واستنزلوكم إلى بقعة النفس وحالوا بينكم وبين مقر القلب وفتنتهم التي هي عبادة الهوى والسجود لأصنام اللذات أشد من الإماتة بالكلية أو بلاؤكم عند استيلاء النفس أشد عليكم من القتل الذي هو محو الاستعداد وطمس الغرائز لما يترتب على ذلك من ألم الفراق عن حضرة القدس الذي لا يتناهى {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} وهو مقام القلب إذا وافقوكم في توجهكم حتى ينازعوكم في مطالبكم ويجروكم عن دين الحق ويدعوكم إلى عبادة عجل النظر إلى الأغيار فإن نازعوكم {فاقتلوهم} بسيف الصدق واقطعوا مادة تلك الدواعي.
{كذلك جَزَاء الكافرين} [البقرة: 191] الساترين للحق {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} عن نزاعهم {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 192] {وقاتلوهم} على دوام الرعاية وصدق العبودية {حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} ولا يحصل التفات إلى السوي {وَيَكُونَ الدّينُ كُلُّهُ لِلهِ} بتوجه الجمع إلى الجناب الأقدس والذات المقدس {فَإِنِ انتهوا فَلاَ عدوان} [البقرة: 193] إلا على المجاوزين للحدود {الشهر الحرام} الذي قامت به النفس لحقوقها {بالشهر الحرام} الذي هو وقت حضوركم ومراقبتكم {والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة: 194] فلا تبالوا بهتك حرمتها {وَأَنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله} ما معكم من العلوم بالعمل به والإرشاد {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ} إلى تهلكة التفريط وأحسنوا [البقرة: 195] بأن تكونوا مشاهدين ربكم في سائر أعمالكم إن الله يحب المشاهدين له، وأتموا حج توحيد الذات وعمرة توحيد الصفات لله بإتمام جميع المقامات والأحوال {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ} نع أعداء النفوس أو مرض الفتور فجاهدوا في الله بسوق هدي النفس وذبحها بفناء كعبة القلب، ولاختلاف النفوس في الاستعداد قال: {ما استيسر} {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُءوسَكُمْ} ولا تزيلوا آثار الطبيعة وتختاروا فراغ الخاطر حتى يبلغ هدي النفس محله فحينئذٍ تأمنون من التشويش وتكدر الصفاء {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا} ضعيف الاستعداد {أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ} أي مبتلى بالتعلقات ولم يتيسر له السلوك على ما ينبغي فعليه فدية من إمساك عن بعض لذاته وشواغله أو فعل برأ ورياضة تقمع بعض القوى {فَإِذَا أَمِنتُمْ} من المانع المحصر {فَمَن تَمَتَّعَ} بذوق تجلي الصفات متوسلًا به إلى حج تجلي الذات فيجب عليه ما أمكن من الهدي بحسب حاله {فَمَن لَّمْ يَجِدْ} لضعف نفسه وانقهارها {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج} أي فعليه الإمساك عن أفعال القوى التي هي الأصول القوية في وقت التجلي والاستغراق في الجمع والفناء وهي العقل والوهم والمتخيلة {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} إلى مقام التفصيل والكثرة، وهي الحواس الخمسة الظاهرة والغضب والشهوة لتكون عند الاستقامة في الأشياء بالله عز وجل: {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} موجبة لأفاعيل عجيبة مشتملة على أسرار غريبة {ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِى المسجد الحرام} [البقرة: 196] من الكاملين الحاضرين مقام الوحدة لأن أولئك لا يخاطبون ولا يعاتبون ومن وصل فقد استراح {الحج أَشْهُرٌ معلومات} وهي مدة الحياة الفانية أو من وقت بلوغ الحلم إلى الأربعين كما قال في البقرة: {لا فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذلك} لـ [البقرة: 68]. ومن هنا قيل: الصوفي بعد الأربعين بارد، نعم العمش خير من العمى والقليل خير من الحرمان {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} على نفسه بالعزيمة {فَلاَ رَفَثَ} أي فلا يمل إلى الدنيا وزينتها {وَلاَ فُسُوقَ} ولا يخرج القوة الغضبية عن طاعة القلب بل لا يخرج عن الوقت ولا يدخل فيما يورث المقت {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} أي ولا ينازع أحدًا في مقام التوجه إليه تعالى إذ الكل منه وإليه ومن نازعه في شيء ينبغي أن يسلمه إليه ويسلم عليه {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجاهلون قَالُواْ سَلاَمًا} [الفرقان: 63] {وَمَا تَفْعَلُواْ} من فضيلة في ترك شيء من هذه الأمور {يَعْلَمْهُ الله} ويثيبكم عليه، {وَتَزَوَّدُواْ} من الفضائل التي يلزمها الاجتناب عن الرذائل {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وتمامها بنفي السوي {واتقون يأُوْلِي أُوْلِى *الالباب} [البقرة: 197] فإن قضية العقل الخالص عن شوب الوهم وقشر المادة اتقاء الله تعالى: {لَيْسَ عَلَيْكُمْ} حرج عند الرجوع إلى الكثرة أن تطلبوا رفقًا لأنفسكم على مقتضى ما حده المظهر الأعظم صلى الله عليه وسلم فإذا دفعتم أنفسكم من عرفات المعرفة {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أي شاهدوا جماله سبحانه عند السر الروحي المسمى بالخفي وسمي مشعرًا لأنه محل الشعور بالجمال، ووصف بالحرام لأنه محرم أن يصل إليه الغير {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} إلى ذكره في المراتب {وَإِن كُنتُمْ مّن} قبل الوصول إلى عرفات المعرفة والوقوف بها {لَمِنَ الضالين} [البقرة: 198] عن هذه الأذكار في طلب الدنيا {ثُمَّ أَفِيضُواْ} إلى ظواهر العبادات {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ} سائر الناس إليها وكونوا كأحدهم فإن النهاية الرجوع إلى البداية أو أفيضوا من حيث أفاض الأنبياء عليهم السلام لأجل أداء الحقوق والشفقة على عباد الله تعالى بالإرشاد والتعليم {واستغفروا الله} فقد كان الشارع الأعظم صلى الله عليه وسلم يغان على قلبه ويستغفر الله تعالى في اليوم سبعين مرة، ومن أنت يا مسكين بعده {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [البقرة: 199] {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم} وفرغتم من الحج {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ} قبل السلوك {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} لأنه المبدأ الحقيقي فكونوا مشغولين به حسا تقتضيه ذاته سبحانه: {فَمِنَ الناس} من لا يطلب إلا الدنيا ولا يعبد إلا لأجلها {وماله} [البقرة:200] في مقام الفناء من نصيب لقصور همته واكتسابه الظلمة المنافية للنور؛ ومنهم من يطلب خير الدارين ويحترز عن الاحتجاب بالظلمة والتعذيب بنيران الطبيعة {النار أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} من حظوظ الآخرة والأنوار الباهرة واللذات الباقية والمراتب العالية {والله سريع الحساب} [البقرة: 202].